وظل هذا الاتجاه سائداً حتى السبعينيات حيث كان مفهوم التنمية يؤكد حينذاك على مؤشرات النمو الاقتصادي في زيادة الناتج الوطني ومعدل دخل الفرد، إذ كان يعتقد أن ذلك النمو وحده قادر على توفير فرص الشغل وما يتبع ذلك من تحسّن في الأحوال الاجتماعية والثقافية للمجتمع. وظل الاهتمام مرتبطاً بنماذج التنمية الغربية وبنماذج أنظمتها التربوية في الجوانب الأكاديمية منها خاصة. وكانت أهداف التعليم آنذاك هي تكوين موارد بشرية لتشغل وظائف إدارية في قطاع الخدمات والمؤسسات الحكومية. ولقد كانت هذه الأهداف مثاراً لاهتمام المواطنين حيث كانوا يعتبرونها سبيلاً للتقدم الاجتماعي والاقتصادي. وترتب على ضآلة ذلك القطاع وضعف قدرته الاستيعابية، فيض من المتخرجين الذين لا يصلحون للعمل في مجالات الإنتاج الأخرى. وبرزت مشكلة عدم الملاءمة بين النظام التربوي وبين مطالب العمل في كثير من البلدان الإسلامية. ويصدق ذلك على سائر مراحل التعليم، وعلى مرحلة التعليم الثانوي باعتبارها مرحلة حاسمة في إعداد الأطر التقنية المتوسطة. وتجلت هذه المشكلة في ضآلة التعليم التقني بالقياس إلى التعليم العام في هذه المرحلة، سواء من حيث نسبة الملتحقين به، أو من حيث منزلته الاجتماعية، أو من حيث تطوير مناهجه وإنجاز دراسات حوله.
فعلى الرغم من الشعور بالحاجة إلى الأُطُر التقنية المتوسطة التي تتطلبها مشروعات التنمية، وعلى الرغم من الإعلان في بعض السياسات التربوية عن تنويع التعليم الثانوي، فإن التعليم التقني مازال متعثراً في حركته متخلفاً في رسالته لا يجذب الشباب إليه حيث لا تتوفر لهم فيه الإمكانات والأساليب الحديثة في التعليم والتدريب. ولا يزال يحتاج إلى تطوير في المحتوى والطرائق وفي المكانة وفي الموارد البشرية والمادية.
ومع ذلك، فإن تطوير التعليم الثانوي والتقني ببنياته ومحتواه وطرائقه وأساليبه، ومن حيث تنويعه وتجديده وتحقيق المرونة فيه ومراعاة ملاءمته لأحوال المجتمع ومطالب العمل والتنمية الشاملة، يشكل مشكلة رئيسة من مشكلات التربية والتعليم لابد من مواجهتها بصورة وافية.
وعندما ألاحظ مقاومة التلاميذ للعملية التلقينية وأفكر فيها، ينتابني إحساس بأن أحد المشاكل الأساس هو ذلك الانفصام الموجود داخل التجربة التربوية في أقطار العالم الإسلامي. إنني أتحدث هنا عن الانفصال القائم بين قراءة الكلمات وقراءة العالم. إنني أرى هذا أحد العوائق التي تحول دون ممارسة تكوين سليم في أغلب البلدان الإسلامية. فما المقصود بالانفصال بين قراءة الكلمات وقراءة العالم ؟ عندي إحساس بأن المدرسة في البلدان الإسلامية تعمق الفصل بين الكلمات التي نقرأها والعالم الذي نعيش فيه.
وفي ظل هذا الفصل، يغدو عالم القراءة هو فقط عالم العملية التعليمية. إنه عالم منغلق على ذاته ومقطوع عن العالم الذي نعيش فيه التجارب التي نقرأ عنها القليل. فعالم التعليم الذي نقرأ فيه الكلمات التي ترتبط أقل فأقل بتجاربنا الحياتية الملموسة، قد أصبح أكثر فأكثر تخصصاً بالمعنى السيئ للكلمة. لقد أصبحت المدرسة المكان الأكثر تخصصاً في قراءة الكلمات، إنها تعلمنا فقط قراءة كلمات-المدرسة، وليس قراءة كلمات ـ الواقع.
فالعالم الآخر عالم الوقائع، عالم الحياة، عالم الأحداث، لا علاقة له بالتلاميذ في المدرسة من خلال الكلمات التي تطلب من التلاميذ قراءتها. يمكن القول إن هذا الانفصال هو نوع من ثقافة الصمت المفروضة على التلاميذ. إن القراءة المدرسية تسكت عن عالم التجربة، وبدون نصوص مدرسية نقدية، يتم إسكات عالم التجربة وإقصاؤه.
تريد المدرسة من التلاميذ وصف الأشياء فقط، وليس فهمها. وهكذا فبقدر ما تفصل بين الوصف والفهم، تسيء إلى وعي التلاميذ. فهم لا يتجاوزون سطح الواقع، ولا ينفذون إلى عمقه إلا بواسطة فهم عميق لما يجعل الواقع على ما هو عليه.
وبقدر ما تتعمّق ممارسة هذا الانفصال بين قراءة الكلمات وقراءة الواقع في المدرسة، نقتنع بأن مهمتنا في المدرسة هي فقط الاشتغال على كلمات، والاشتغال على نصوص تتحدث حول كلمات. إنها ممارسة الفصل بين النص ومحيطه. وهكذا نصبح أكثر فأكثر تخصصاً في قراءة الكلمات بدون أن نكون منشغلين بربط القراءة بفهم جيد للعالم. وفي نهاية التحليل، نفصل السياق النظري عن الواقع الملموس. والبيداغوجيا القائمة على الفصل بين النظرية والواقع، تحجم قوة العمل الفكري في المساعدة على جعل المتعلم قادراً على الإنتاج والمساهمة في تنمية مجتمعه.
إن البرامج الدراسية في أغلب المجتمعات الإسلامية تقليدية وبيداغوجيتها أكثر معيارية. والنتيجة هي: إما برنامج أكاديمي لا علاقة له بالمحيط الطبيعي والاجتماعي للتلميذ والطالب، أو تكوين مهني لم تراع في تطويره الشروط التربوية الضرورية لإنجازه. ويتم تقديم كلا البرنامجين باعتبارهما موضوعيين، كما أن تحليلهما المفهومي لا يلامس العالم. فهناك نزعة نحو التجريب وأخرى نحو التجريد. فعندما يصف نصٌّ جزءاً من الواقع بتفاصيله، فإنه لا يقوم بمعالجته علمياً ونقدياً. وعندما يقدم الدرس إطاراً مفهومياً تكون مفاهيمه مجرد تجريدات بعيدة عن الواقع تجعل التلاميذ غير مسلحين لمواجهة التحديات التي يفرضها واقعهم عليهم.
ينسحب التلاميذ من العملية التلقينية، ويقبعون في لا إذعان سلبي أو تخريب دفاعي كجواب عن التربية التي تضعفهم. ويحدث الانفصال بين القراءة والحياة، وبين التفكير والتجربة. فالمفاهيم المقدمة لا علاقة لها بالواقع، ولا يتضمن وصف الواقع أي نقد له، كما أن الفكر النقدي مفصول عن الحياة. وهذا الفصل هو الدينامية الداخلية لبيداغوجيا تضعف التلاميذ والطلاب سيكولوجياً.
تمضي سنة بعد أخرى وهذا الانفصال يهدم حيوية المتعلمين ورغبتهم في المعرفة، ويتعلمون توقّع القليل من تمدرسهم. إنهم يحلقون فوق المواد نفسها من سنة إلى أخرى، أو يتوصلون بمواد جديدة مقدمة إليهم بطرق مملة وتجريدية، إنها تتجدد على مستوى العناوين وتشبه أغلبيتها سابقتها في فراغها. ولا يمكن مواجهة هذا الواقع بالمزيد من البيداغوجيا السلبية وتعميق الهوة بين النظرية والممارسة. فهذا يقتضي بيداغوجيا تربط الفكر بالواقع، بيداغوجيا مبدعة وناقدة، مؤيدة لذاتية التلميذ واستقلاله.
لقد طغت على التعليم عامةً بمختلف مراحله وأنواعه، الاتجاهات النظرية الأكاديمية، ورافق ذلك البعد عن حاجات المجتمع الواقعية والتأثر في أحسن الأحوال بمجرد الطلب الاجتماعي للإعداد للوظائف الإدارية التي كانت محور اهتمام الحكومات وسياساتها.