إن كلمة لغة مشتقة في اللغة العربية من اللغا أو اللغو ويعني الكلام الفارغ غير المفيد، كما تعني مجموعة من الأصوات التي يعبر بها أفراد مجتمع معين عن حاجاتهم وأغراضهم. كما أن كلمة langage الفرنسية مشتقة من الكلمة اللاتينية lingua التي تفيد الكلام واللسان. ويتبين من هذا أن الدلالة المعجمية لكلمة "لغة" تجعلها ترتبط بالكلام.
والملاحظة المباشرة تؤكد أن الكلام فعل صوتي فردي يتم ويتلاشى في الزمان، بينما تظل اللغة مجموعة من الكلمات والأصوات والقواعد الثابتة، التي من خلالها يتحقق فعل الكلام، وبالتالي هي التي تمكن مجتمعا من التواصل وإنتاج المعرفة، ويتأكد في نفس الوقت أن عملية التواصل يمكنها أن تتم بطرق أخرى غير الكلام : كالحركات، والإيماءات الجسدية، والعلامات، والرموز.
إن اللغة ـ إذن ـ ظاهرة يمكنها أن تتخذ صورا صوتية فردية، أو صورا كونية، يمكن بواسطتها أن يتفاهم سائر أفراد المجتمعات.
كما أنها ظاهرة معقدة يمكن أن تكون موضوع دراسات متعددة في آن واحد (كالفسيولوجيا، والسوسيولوجيا، والأنثروبولوجيا، والسيكولوجيا، واللسانيات …الخ). فاللغة ظاهرة فسيولوجية، لأنها ترتبط بالجهاز العصبي وبأعضاء الكلام (كالحنجرة والفم …الخ)، وبالإيماءات الجسدية. كما أن اللغة مؤسسة اجتماعية تتمظهر على شكل نسق رمزي يوحد بين أفراد المجتمع الواحد، ويوجد بمعزل عنهم. كما أنها أداة للتواصل، ومن ثمة، فهي ظاهرة مشتركة بين سائر أفراد النوع البشري. هكذا تتخذ اللغة مظهرا إشكاليا، يتمظهر في تنوعات مختلفة ومتميزة، فهي ظاهرة فطرية وثقافية، وهي فعل كلامي فردي، وهي ظاهرة اجتماعية موضوعية، كما أنها نتاج للفكر ووسيلة للتواصل والتبليغ.
انطلاقا من ذلك، تبرز الإشكالية الفلسفية العامة التي يحاول هذا الدرس مقاربتها، والتي يمكن تفريعها إلى التساؤلات التالية:
2. اللغة الإنسانية و"التواصل الحيواني"
لقد حاول الفلاسفة منذ البداية الإجابة عن السؤال التالي : كيف يمكن تفسير وجود لغة عند الإنسان وغيابها عند الحيوان؟
يعتبر ديكارت من المهتمين بظاهرة اللغة، خصوصا وأنه حاول باستمرار إقامة الفروق بين الإنسان والحيوان، وهي محاولات لا تنفصل عن نظريته الفلسفية العامة في المادة والفكر. وعلى الرغم من ذلك، استطاع أن يقترب من بعض التصورات العلمية، خاصة نظريات التعلم التي بنت أسسها على تجارب بافلوف Pavlov . فقد أبان ديكارت أنه يمكن اعتبار الأصوات التي تصدر عن الحيوانات مجرد استجابات انفعالية لمؤثرات تسبب له لذة أو ألما اكتسبتها نتيجة الدعم. فالصوت المشروط لا يمكن اعتباره إلا فعلا منعكسا شرطيا وليس تواصلا. ويعتقد ديكارت أن السبب في وجود لغة لدى الإنسان وانعدامها عند الحيوان هو العقل (أو الفكر). فاللغة ليست ظاهرة فسيولوجية. فالحيوان يتوفر على أعضاء الكلام لكنه يفتقر إلى لغة؛ في حين أن تعطل هذه الأعضاء عند الإنسان لا يمنعه من إنتاج لغة، كما يلاحظ ذلك عند الصم والبكم. لذا يمكن القول بأن الحيوان لا يملك عقلا مطلقا، ومن ثمة فهو غير قادر على التواصل.
تعززت نظرية ديكارت بتمثلات الدراسات اللسانية المعاصرة، حيث بين بنفينست Benveniste اعتمادا على بعض التجارب التي أجريت على النحل، أن النحلة تستطيع التواصل في إطار شروط فزيائية معينة، إلا أن هذا "التواصل" هو عبارة عن رقصات لا تستدعي الحوار: فلا يمكن لنحلة أن تعيد إنتاج رسالة نحلة أخرى (غياب الإرسال المجدد)، وموضوع الرسالة مرتبط دائما بشروط موضوعية ينحصر في مكان وجود الغذاء، لأن لغة الحيوان لغة نمطية، ومرتبطة باستمرار بدوافع غريزية ؛ في حين أن لغة الإنسان تعتمد على الفكر. لذا لا يمكن أن نجد خلافا بين رسالة نحلة وأخرى، إلا فيما يخص متغيرات مرتبطة بالمكان. وأخيرا فإن لغة النحل لا تقبل التحليل (التفكيك) نظرا لمحدودية مكوناتها، في حين أن اللغة البشرية توصف بأنها شبكة رمزية من التأليفات اللانهائية من الدلائل والمورفيمات والفونيمات.
إن اللغة الإنسانية – إذن – تأليف بين عناصر متنوعة، إذا تمفصلت فيما بينها يمكن أن تكون لها دلالات متعددة، ويمكن أن تدخل في سياقات كثيرة. فكيف تتمفصل اللغة الإنسانية؟ يميز أندري مارتيني بين نوعين من التمفصل:
( ا ) التمفصل الأول: وهو عبارة عن تمفصل اللغة في شكل وحدات صوتية قادرة على التعبير عن خبرة معينة، فهذا النوع من التمفصل هو الذي بوسعه أن يقضي على فردانية الخبرة بتحويلها إلى خبرة لسانية جماعية. وميزة هذا التمفصل أنه اقتصاد لساني: فمن خلال وحدات صوتية محدودة، نستطيع أن نعبر عن تجارب متنوعة، مادامت الوحدات الصوتية تستطيع أن تدخل في سياقات أخرى جديدة، كما أنه اقتصاد سيكولوجي، لأنه يجنب الذاكرة البشرية الاضطرار إلى حفظ وحدات صوتية كثيرة، قد يصل عددها إلى عدد إلى عدد التجارب.(أصغر ما يمكن أن نطلق عليه اسم التفصل الأول هو الجملة).
(ب) التمفصل الثاني: وهو عبارة عن تمفصل فونيمات (فارغة من المعنى) في وحدات صوتية من التمفصل الأول؛ وهكذا يكون التمفصل الثاني أساس الأول، وميزته أنه يمثل اقتصادا لسانيا : فبواسطة فونيمات محدودة نستطيع إنشاء مورفيمات ومونيمات ودلائل متنوعة تستطيع بدورها أن تدخل في سياقات عديدة من التمفصل الأول. وميزته، كذلك، أنه يشكل اقتصادا فسيولوجيا : فبدونه، سيكون الإنسان مضطرا إلى ابتكار عدد كبير من الأصوات التي قد لا تطابق قدراته الفسيولوجية. من هذا نستنتج، أن النسق اللغوي ليس نسقا لانهائيا إلا من حيث تأليفاته؛ أما من حيث جذوره فإنه يعتبر محدودا. هكذا يستطيع الإنسان أن يعبر عن خبراته المتنوعة د ونما حاجة إلى خلق وحدات صوتية مطابقة لكل الأشياء والأحداث.(لفهم التمفصل الثاني يكفي أن نأخذ كمثل على ذلك الحروف الأبجدية فهي بضع حروف فرغة من المعنى لكن نستطيع أن نصنع بها آلاف الكلمات).
إن تصور اللغة بهذا الشكل يدفع إلى التساؤل حول طبعة اللغة وأصلها، وبالتالي التساؤل حول ما إذا كانت اللغة مواضعة واصطلاحا أم محاكاة للطبيعة؟
لقد كانت فكرة محاكاة الكلمات للأشياء فكرة قديمة، نجدها عند الحضارات الشرقية ؛ فأدخلها أفلاطون إلى فلسفته الخاصة، حيث اعتقد هذا الفيلسوف أن تقنين اللغة من اختصاص المشرع (= الفيلسوف) الذي يعرف كيف يصنع الكلمات، لأن الأسماء لابد أن تكون من جنس الأشياء التي تعبر عنها، وذلك حتى تكون مطابقة لها وتستطيع التأثير عليها. فالأطروحة الأفلاطونية، بهذه الصورة، تجمع بين تصورين : التصور الفلسفي الذي يؤكد أن اللغة محاكاة للطبيعة، والتصور الفلسفي الكلاسيكي الذي يجعل وضع اللغة مقصورا على بعض المشرعين والحكماء.
فالتصور الأول يتضمن بعض الصواب، لأن اللغة تتضمن فعلا كلمات تحاكي بعض الأصوات الصادرة عن الطبيعة محاكاة ميمية( مثلا حفيف، خرير، هدير ...إلخ). إلا أن هذا لا يدل في العمق إلا على مرحلة بدائية من مراحل تشكل اللغة. وهي أطروحة لا يمكن تعميمها، لأن الإقرار بالطابع التواضعي للغة أمر لابد من التأكيد عليه شرط أن نعرف أن المواضعة تتم بطريقة سوسيولوجية جمعية. فليست اللغة حكرا على بعض الأفراد مشرعين كانوا أو حكماء.
وتجدر الإشارة إلى أن البحث عن أصل اللغة أصبح متجاوزا، لأن اللسانيات المعاصرة أصبحت تهتم باللغة كنسق من الرموز والعلامات تستوجب دراسته من الداخل، ومن جهة أخرى أصبح تفرد الإنسان باللغة دون الحيوان ظاهرة يستأثر بها البحث البيولوجي العصبي. فإذا كانت اللغة نشاطا رمزيا من العلامات، فإن السؤال المطروح هو : كيف تنشأ العلامات والرموز؟ وما علاقتها بالأشياء والموضوعات؟
3.العلامة والرمز اللسانيان
[right]إن الإنسان يتجاوز كينونته البيولوجية باعتباره حيوانا رامزا، فيعتبر النسق الرمزي طريقة جديدة يبدعها الإنسان للتلاؤم مع الوسط الخارجي، وكما يرى
كاسيرر Kassirer : فبقدر ما يتقدم النشاط الرمزي لدى الإنسان، بقدر ما يتراجع الواقع المادي إلى الوراء.
إلا أن
هيغل Hegel يرى أن هناك فرقا جوهريا بين الرمز والعلامة ؛ فالعلامة اعتباطية، في حين أن الرمز يشتمل على التمثيل الذي يعبر عنه. فالأسد – مثلا – يستخدم رمزا للقوة، والثعلب رمزا للمكر ..الخ ؛ هكذا يبدو أن الرمز ليس كليا اعتباطيا. لكن لا يجب أن يفهم من ذلك أن الرمز يطابق تمام المطابقة المدلول عليه، لأنه يحمل خصوصيات غير موجودة في المدلول عليه.
أما
دي سوسير De Saussure فيرى أن العلامة اللسانية تتألف من الدال le signifiant (الصورة الصوتية) والمدلولle signifié (الفكرة، أو التمثل الذهني)، والعلاقة بينهما علاقة اعتباطية مما يؤكد أن العلامة اللسانية مبنية على أساس المواضعة والاتفاق.. فكلمة "أخت" لا تحمل في ذاتها، ولا في متوالية الأصوات المكونة لها (أ،خ،ت،ن) أية علاقة بالتمثل الذهني الذي تدل عليه. فتعدد العلامات اللسنية في تسمية الشيء الواحد بأسماء متعددة دليل على اعتباطيتها. إن العلامات والرموز – إذن – هي البدائل التي بواسطتها يتحرر الفكر البشري من السلطة والحضور الماديين للأشياء. ذلك ما يؤكد الاختلاف الجوهري بين
هيغل و
دي سوسير. فالرمز يتضمن في نظر اللسانيين (دي سوسير نموذجا) فكرتين : إحداهما فكرة الشيء الممثل (بكسر الثاء) le représentant ، والأخرى هي فكرة الشيء الممثل (بفتح الثاء) le représenté ؛ وذلك نفسه ينطبق على مفهومي الدال والمدلول. فبواسطة العلامة والرمزـ إذن ـ يتم تمثيل الموضوعات المادية والمعاني التي يريد الفكر استحضارها إلى حيز الشعور.
من خلال هذا نستنتج، أن اللغة نشاط رمزي، يستطيع الإنسان،بواسطته، أن يتمثل الواقع دونما حاجة إلى التقيد به واستحضاره في صورته وشكله الماديين. وهذا ما يتيح لنا أن نتساءل حول طبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والفكر، وبالتالي: هل توجد بين اللغة والفكر علاقة تبعية وتلازم؟ أم هل بينهما علاقة انفصال؟
.اللغة، الفكر، التواصل
تتقاسم أطروحتان إشكالية العلاقة بين اللغة والفكر : الواحدة منهما تقول بانفصال اللغة والفكر، وأخرى تؤكد – على العكس – فكرة الاتصال بينهما. فإذا تأملنا موقف
برغسون Bergson ، نجده لا ينكر توفر اللغة كوسيلة تخرج الإنسان من الجهل إلى المعرفة، إلا أنه يعتبرها أداة غير كافية نظرا لطابعها المحدود مقارنة مع الموضوعات اللانهائية. فعلى العقل أن يتدخل باستمرار ليضفي على الكلمات دلائل جديدة من خلال عملية إلحاقها بأشياء لم تكن ضمن اهتماماته قبلا. وبهذه الطريقة ينقل العقل الأشياء من المجهول إلى المعلوم. ومن ثمة، يرى برغسون أن العقل يستعمل باستمرار الطريقة التي ألفها في تعامله مع المادة الجامدة.
إنه لا يمكن فهم الموقف البرغسوني في طرحه لعلاقة اللغة بالفكر إلا من خلال التمييز بين ثابتين: عمل العقل وعمل الحدس. فالعقل - في نظر برغسون – يتعامل – مثلا – مع الكائن الحي على أنه ليس كذلك، وهذه هي الطريقة الوحيدة التي يملكها العقل للتأثير على الأشياء. غير أن هذه الطريقة برغمائية وميكانيكية، تلجأ إلى قتل الحي وتثبيت المتحرك، والقضاء على الاتصال. أما الحقيقة فهي متجلية – حسب برغسون – في عمل الحدس الذي يدرك "الديمومة". وإذا اعتبرنا اللغة من إبداع العقل فإنها تصبح وسيلة، وأداة خطيرة، يستطيع العقل أن يحقق من خلالها عمله النفعي والميكانيكي. ومن ثمة تكون اللغة عاجزة عن التعبير عن "الديمومة"، وبالتالي عاجزة عن التعبير عن الفكر الحدسي المدرك لتلك "الديمومة".
هكذا يتأكد أن الموقف البرغسوني يتلخص في ترجيح كفة انفصال اللغة عن الفكر وعجزها عن التعبير عنه. وتلتقي مع أطروحة برغسون عدة أطروحات أخرى من أبرزها
الأطروحة الصوفية. فما قد يفهمه الجمهور من كفر وزندقة وشرك من شطحات المتصوفة ( كقول
الحلاج مثلا: "ما في الجبة إلا الله" أو قول
البسطامي: "سبحاني ما أعظم شأني") لا يؤكد ذلك في العمق إلا أن التجربة الصوفية تجربة روحية باطنية ووجدانية فردية، تعجز اللغة عن ترجمتها والتعبير عنها بإخلاص.
وفي مقابل ذلك، يؤكد
ميرلوبونتي Merleau-Ponty أن هناك ارتباطا دياليكتيكيا بين اللغة والفكر، ولا يمكن اعتبارهما، في أي حال من الأحوال، موضوعين منفصلين. إن التفكير الصامت الذي يوحي لنا بوجود حياة باطنية هو – في الحقيقة- مونولوج داخلي يتم بين الذات ونفسها، لأن اللغة والفكر يشكلان وجودا علائقيا مرتبطا ومتزامنا. كما ترى الطروحات اللسانية المعاصرة، خاصة منها أطروحة كريستيفا أن بين اللغة والفكر علاقة تلازم وتبعية، حيث ترى
جوليا كرستيفا J. Kristeva أن اللغة منظورا إليها من خارج تكتسي طابعا ماديا متنوعا: فيمكنها أن تتمظهر في صورة سلسلة من الأصوات المنطوقة، أو في صورة شبكة من العلامات المكتوبة، أو على شكل لعبة من الإيماءات، وهذه الحقيقة المادية تجسم ما نسميه فكرا، أي أن اللغة هي الطريقة الوحيد التي يمكن أن يوجد بها الفكر، بل هي حقيقة وجوده وخروجه إلى الوجود، أو كما تقول كريستيفا : "إن اللغة هي جسم الفكر".
إن التساؤل الذي يفرض نفسه في هذا الإطار هو: أي الأطروحات يجب الإقرار بها؟ إذا قارنا بين الأطروحات التي بحثت في طبيعة العلاقة الموجودة بين اللغة والفكر، يلاحظ أن الأطروحات التي تؤكد وجود علاقة الإنفصال بينهما تتمثل في الطروحات الفلسفية المثالية. في حين أن القول بوجود علاقة التلازم بين اللغة والفكر تتبناها وتدعمها الأطروحات العلمية. فقد بينت – مثلا – الأبحاث العلمية التي أجريت على ظاهرة الأفازيا L'Aphasie أن المرض اللغوي هو في الحقيقة مرض عقلي. كما أكدت الطروحات اللسانية من خلال جوليا كريستيفا أنه لا يمكن الحديث في علاقة اللغة والفكر عن وجودين منفصلين، بل عن وجود واحد، وفي نفس السياق شبه
دي سوسير De Saussure العلاقة بين اللغة والفكر بوجه الورقة وظهرها، حيث قال : "إن الفكر هو وجه الصفحة، بينما الصوت هو ظهر الصفحة، ولا يمكن قطع الوجه دون أن يتم في الوقت نفسه قطع الظهر، وبالمثل لا يمكن في مضمار اللغة، فصل الصوت عن الفكر أو فصل الفكر عن الصوت..".
إن إشكالية العلاقة بين الفكر واللغة، تحمل في طياتها إشكاليات أخرى عديدة ومعقدة ومتداخلة. ومن أبرز هذه الإشكاليات، إشكالية الوظائف التواصلية للغة باعتبارها تواضعا اجتماعيا وتأليفا بين عناصر متعددة. فكيف يتحدد التواصل بواسطة النسق اللغوي؟ هل يتحقق التواصل في إطار من الشفافية والوضوح التامين ؟ أم أن عملية التواصل تدخل عوامل تقصي الشفافية؟
إن النظرية التواصلية تعتبر اللغة أداة تواصل وتبليغ، وعملية التواصل تتم في إطار من الوضوح والشفافية بين الذوات المتكلمة، أو بتعبير آخر، إن عملية التواصل هي تبليغ وتلاق بين ذوات متكلمة وأخرى متلقية، تتم في إطار من الوضوح والشفافية وفي شروط ذاتية وموضوعية. وقد حدد
جاكوبسون Jakobson عوامل التواصل فيما يلي : المرسل وهو الطرف المبلغ للرسالة سواء كان فردا أو جماعة أو هيئة أو مؤسسة ...إلخ، المتلقي (المرسل إليه) وهو الطرف المستقبل للرسالة، الرسالة وهي الخطاب الذي يوجهه المرسل إلى المتلقي، المرجع (أو السياق) وهو الموضوع الذي تتمحور حوله الرسالة، روابط الاتصال والمقصود بها القنوات المادية والنفسية التي تسهل عملية انتقال الرسالة، و أخيرا السنن le code وهو النظام الرمزي (لغة التواصل) المشترك بين المرسل والمتلقي. وإذا توفرت هذه العوامل، فإن اللغة تؤدي الوظائف التواصلية التالية:
1) الوظيفة الانفعالية : وهي ما تسعى رسالة ما تحقيقه من خلال التعبير عن الشعور الانفعالي للمرسل، سواء كان الشعور صادقا أو كاذبا.
2) الوظيفة التأثيرية : وهي الطريقة التي قد يضطر المرسل إلى نهجها من أجل التأثير على المتلقي، وفي هذه الحالة تتخذ الرسالة شكل صيغ النداء والأمر.
3) الوظيفة الإتصالية : وهي الصيغ اللغوية التي قد يلجأ إليها المرسل حتى لا يكون هناك فتور في التواصل، أو تراخ في الحديث.
4) وظيفة وصف اللغة للغة : وهي وظيفة يمكن أن تتجلى في كل دراسة لخطاب من الخطابات أو رسالة من الرسائل، وفي هذه الحالة تتخذ الرسالة صورا تحليلية، أو نقدية، أو صور شروح وتفسيرات ..إلخ.
5) الوظيفة الشعرية : وهي الصور التي يجب أن تتحقق في الرسالة ذاتها على مستوى جمالية التعبير، والاتساق اللغوي، وضبط للقواعد واحترام لها …
إن سرد الوظائف بهذا الشكل، يبين أن الرسالة الواحدة يمكنها أن تقوم بكل هذه الوظائف، لذا قال جاكبسون، إن تحديد رسالة ما بالوظيفة المهيمنة لا يجب أن يحجب عنا الوظائف المتبقية. غير أن
دوكرو Ducrot يرى أن عملية التواصل لا تتم دائما في إطار من الوضوح والشفافية، بل تصبح اللغة وسيلة للإضمار والإخفاء وذلك يرجع لسببين:
(ا) وجود طابو tabou لغوي داخل كل المجتمعات البشرية.
(ب) خوف الذات المتكلمة من المناقشة والاعتراض.
هكذا تصبح اللغة تحت تأثير الطقوس والعادات، وتحت ضغط الطابو le tabou ، وسيلة لتخفي الذات المتكلمة ما تود قوله. إلا أن ذلك لا يعني أن للذات المتكلمة سلطة مطلقة على اللغة، حيث يرى
رولان بارت R. Barthes أن اللغة نظام توكيدي إثباتي، وسلوك نمطي قطيعي، حيث تصبح اللغة تشريعا إلزاميا. ومعنى ذلك أن الفرد حينما يتكلم، فإنه يفعل ذلك في حدود ما تسمح به اللغة. ومن ثمة لا تظهر قدرة الفرد الإبداعية إلا من خلال قدرته على الالتزام بقوانين النسق اللغوي. وبهذا يصبح الإنسان عبدا للغة أكثر مما هو سيد لها.
وكتخريج عام، يمكن القول بأن اللغة خاصية تميز الإنسان، وقد
روى ديدرو Diderot كيف أن أحد الرهبان انبهر بذكاء شامبانزي فصاح فيه قائلا : "تكلم ولن أتردد في أن أعمدك". وقد انحصرت اللغة في دائرة الإنسان، ليس باعتباره كائنا بيولوجيا، بل خصوصا لأنه يملك القدرة على التفكير، ولكونه يستطيع، بفضل نشاطه الرمزي، أن يخلق لنفسه عالما رمزيا يبعده عن السلطة المادية للأشياء، ويمكنه من جهة أخرى من التواصل، ونقل خبراته الفردية لكي تصبح خبرات لسانية جماعية. إلا أن اللغة ليست دائما طيعة بين يدي الذات المتكلمة، فاللغة مؤسسة تتميز بوجودها المستقل الذي يجعل الذات المتكلمة تخضع لسلطتها