إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلمتسليمًا كثيرا.
أما بعد؛ فهذا كتاب مختصر في سيرة أمير المؤمنين، وخالهم، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، وصهره، وابن عمه، معاوية بن أبي سفيان الأموي رضي الله عنه، ومناقبه وخلافته. وقسمته إلى فصول. الفصل الأول اسمه ونسبه
هو أمير المؤمنين، أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر «وهو قريش» بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وأمه هي هند بنت عم أبيه عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي...إلخ.
يلتقي نسبه من جهة أبيه وأمه مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده عبد مناف بن قصي، لأن عبد مناف ولد أربعة من الولد، كلهم أبو قبيلة وذو شرف، وهم:
هاشم – واسمه عامر أبو عمرو -، وهو جد النبي صلى الله عليه وسلم.والثاني: عبد شمس، وهو توأم لهاشم، وهو أبو أمية جد الأمويين.
والثالث: نوفل، هو جد بني نوفل.
والرابع: المطلب، وهو جد المطلبيين، ومنهم الإمام الشافعي.
الفصل الثاني مولده
لم أقف على تحديد ولادته، بالدقة إلا ما ذكره ابن حجر في «الإصابة» قال: ولد قبل البعثة بخمس سنين وقيل بسبع وقيل بثلاث عشرة والأول أشهر. اهـ لكن الظاهر من التواريخ والأحداث أنه كان يوم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حدثًا جدًا، إذ كان عمره عام الهجرة النبوية إلى المدينة نحو ثلاث عشرة سنة، فقد ذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أنه مات سنة ستين للهجرة في رجب، واختار أن عمره يوم وفاته ثلاث وسبعون سنة، فيكون عمره يوم الهجرة ثلاث عشرة سنة، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم مكث في مكة قبل الهجرة ثلاث عشرة سنةً – على الأصح – فيكون مولده عام البعثة والله أعلم، ويكون صغيرًا لم يبلغ الحنث أيام وجود النبي صلى الله عليه وسلم بمكة.
لم ينتقل رضي الله عنه إلى المدينة إلا بعد الفتح سنة ثمان، فيكون عمره يوم الفتح إحدى وعشرين سنةً، وهذا أقصى ما ذُكر في بدء إسلامه، بل الأصح أنه أسلم في مدة صلح الحديبية – كما سيأتي -.
ومما يؤيد هذا أنه بعد نُقلته إلى المدينة أيام النبي صلى الله عليه وسلم كان صعلوكًا – لا مال له -، فالظاهر أنه لم يتزوج بعد، فعن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة، قالت: فلما حللت ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم هشام خطباني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أبو الجهم فلا يضع عصاه على عاتقه، وأما معاوية فصعلوك لا مال له، انكحي أسامة بن زيد»، فكرهته، ثم قال: «انكحي اسامة»، فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا، واغتبطت([sup][1])[/sup].وتعني بالغبطة هنا: الفرح والسرور بالشيء فيما بعد. و«الصعلوك» بالضم الفقير الذي لا مال له، وهذا يدل على أنه كان في غاية من الفقر والفاقة حتى قال في حقه إنه صعلوك، قال النووي رحمه الله: كان معاوية قليل المال جدًا. ا.هـ([sup][2])[/sup].
قيل: إن فقره ذلك الوقت لأن أباه كان كافرًا، ولم يسلم بعد، ولم يعط ابنه شيئًا بعدما أسلم، وهذا مردود؛ لأن أباه من مسلمة الفتح، وانتقل للمدينة بعد ذلك، فالأظهر أنه لشح فيه، كما في حديث هند بنت عتبة في (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها أن هندًا قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني ما يكفيني وولدي؛ إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف»([sup][3])[/sup].
الفصل الثالث في إسلامه
أسلم معاوية رضي الله عنه قبل أبيه، وقت عمرة القضاء، في السنة السابعة من الهجرة، وعمره حينئذ أقل من عشرين سنة، وخاف من أبيه أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يظهر إسلامه إلا يوم الفتح. وهذا ما رجحه الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) كما سيأتي إن شاء الله. قال الحافظ ابن الجوزي: «قال معاوية لما كان عام الحديبية وكتبوا القضية: وقع الإسلام في قلبي، فذكرت ذلك لأمي، فقالت: إياك أن تخالف أباك، فيقطع عنك القوت، فأسلمت وأخفيت إسلامي، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام القضية وأنا مسلم، وعلم أبو سفيان بإسلامي فقال لي يومًا: أخوك خير منك، هو على ديني، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح، فأظهرت إسلامي، ولقيته فرحب بي، وكتبت له أسلم معاوية، وهو ابن ثمان عشرة سنة». ا.هـ([sup][1])[/sup].
قال شيخ الإسلام([sup][2])[/sup]: «تواتر إسلام معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وبني العباس وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفار» ا.هـ.
وقال حافظ المشرق أبو بكر الخطيب البغدادي: «أسلم وهو ابن ثمان عشرة سنة، وكان يقول: أسلمت عام القضية، ولقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت عنده إسلامي». ا.هـ([sup][3])[/sup].
وقال مصعب الزبيري: «كان معاوية يقول: أسلمت عام القضية، لقيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان عام القضية لما صُد النبي صلى الله عليه وسلم عن البيت» ا.هـ([sup][4])[/sup]. يعني عمرة القضاء سنة سبع، بعد الحديبية بسنة.
وقال الزبير بن بكار: «ومعاوية بن أبي سفيان كان يقول: أسلمت عام القضية، ولقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعت إسلامي عنده، وقبل مني»([sup][5])[/sup].وقال الحافظ أبو نعيم الأصبهاني والحافظ أبو القاسم ابن عساكر: «أسلم قبيل الفتح، وقيل: عام القضية وهو ابن ثمان عشرة، عده ابن عباس من الفقهاء، وقال كان فقيهًا» ا.هـ([sup][6])[/sup].
وعن عمر بن عبد الله العنسي قال: قال معاوية رضي الله عنه: لما كان عام الحديبية، وصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت، وكتبوا بينهم القضية، وقع الإسلام في قلبي، فذكرت لأمي، فقالت: إياك أن تخالف أباك، فأخفيت إسلامي، فوالله لقد رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية وإني مصدق به، ودخل مكة عام عمرة القضية، وأنا مسلم. وعلم أبو سفيان بإسلامي، فقال لي يومًا: لكن أخاك خير منك، وهو على ديني. فقلت: لم آل نفسي خيرًا، وأظهرت إسلامي يوم الفتح، فرحب بي النبي صلى الله عليه وسلم وكُتبت له([sup][7])[/sup].
ومما يؤيد ذلك ما صح عن مجاهد وعطاء عن ابن عباس أن معاوية رضي الله عنه: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص([sup][8])[/sup] قلنا لابن عباس ما بلغنا هذا إلا عن معاوية، فقال ابن عباس: ما كان معاوية على رسول الله صلى الله عليه وسلم متهمًا([sup][9])[/sup].
وما جاء في بعض الروايات أن ذلك كان في حجة الوداع فغير صحيح، كما قال القاضي عياض وغيره، ورجح النووي والقاضي عياض أنها في عمرة الجعرانة بعد الفتح([sup][10])[/sup].
قال ابن حجر في (الإصابة): «وقد أخرج أحمد من طريق محمد بن علي بن الحسين عن بن عباس أن معاوية قال قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة وأصل الحديث في البخاري من طريق طاوس عن بن عباس بلفظ قصرت بمشقص ولم يذكر المروة وذكر المروة يعين أنه كان معتمرًا لأنه كان في حجة الوداع حلق بمنى كما ثبت في الصحيحين عن أنس» ا.هـ.
ورجح الحافظ ابن حجر العسقلاني – رحمه الله – في (الفتح) أن ذلك كان في عمرة القضية سنة سبع، فقال – في شرح هذا الحديث([sup][11])[/sup] -: روى مسلم في هذا الحديث أن ذلك كان بالمروة، ولفظه: قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص، وهو على المروة، أو رأيته يقصر عنه بمقشص، وهو على المروة، وهذا يحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة... وفي كونه في حجة الوداع نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حتى بلغ الهدي محله فكيف يقصر عنه على المروة. وقد بالغ النووي هنا في الرد على من زعم أن ذلك كان في حجة الوداع، فقال: هذا الحديث محمول على أن معاوية قصر عن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة الجعرانة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كان قارنًا، وثبت أنه حلق بمنى وفرق أبو طلحة شعره بين الناس، فلا يصح حمل تقصير معاوية على حجة الوداع، ولا يصح حمله أيضًا على عمرة القضاء الواقعة سنة سبع؛ لأن معاوية لم يكن يومئذ مسلمًا إنما أسلم يوم الفتح سنة ثمان، هذا هو الصحيح المشهور، ولا يصح قول من حمله على حجة الوداع وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعًا؛ لأن هذا غلط فاحش.
قال ابن حجر: ولم يذكر الشيخ هنا ما مر في عمرة القضية، والذي رجحه من كون معاوية إنما أسلم يوم الفتح صحيح من حيث السند، لكن يمكن الجمع بأنه كان أسلم خفية وكان يكتم إسلامه ولم يتمكن من إظهاره إلا يوم الفتح. وقد أخرج ابن عساكر في «تاريخ دمشق» من ترجمة معاوية تصريح معاوية بأنه أسلم بين الحديبية والقضية، وأنه كان يخفي إسلامه خوفًا من أبويه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل في عمرة القضية مكة خرج أكثر أهلها عنها حتى لا ينظروه وأصحابه يطوفون بالبيت، فلعل معاوية كان ممن تخلف بمكة لسبب اقتضاه، ولا يعارضه أيضًا قول سعد بن أبي وقاص – فيما أخرجه مسلم([sup][12])[/sup] وغيره: فعلناها – يعني العمرة في أشهر الحج – وهذا يومئذ كافر بالعرش، - بضمتين، يعني بيوت مكة، يشير إلى معاوية – لأنه يحمل على أنه أخبر بما استصحبه من حاله، ولم يطلع على إسلامه لكونه كان يخفيه. ويعكر على ما جوزوه أن تقصيره كان في عمرة الجعرانة أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب من الجعرانة بعد أن أحرم بعمرة ولم يستصحب أحدًا معه إلا بعض أصحابه المهاجرين، فقدم مكة، فطاف وسعى وحلق ورجع إلى الجعرانة فأصبح بها كبائبٍ، فخفيت عمرته على كثير من الناس. وكذا أخرجه الترمذي وغيره، ولم يعد معاوية فيمن صحبه حينئذ، ولا كان معاوية فيمن تخلف عنه بمكة في غزوة حنين حتى يقال لعله وجده بمكة، بل كان مع القوم([sup][13])[/sup]، وأعطاه مثل ما أعطى أباه من الغنيمة مع جملة المؤلفة، وأخرج الحاكم في (الإكليل) في آخر قصة غزوة حنين أن الذي حلق رأسه صلى الله عليه وسلم في عمرته التي اعتمرها من الجعرانة أبو هند عبد بني بياضة، فإن ثبت هذا وثبت أن معاوية كان حينئذ معه أو كان بمكة فقصر عنه بالمروة أمكن الجمع بأن يكون معاوية قصر عنه أولًا، وكان الحلاق غائبًا في بعض حاجته، ثم حضر فأمره أن يكمل إزالة الشعر بالحلق؛ لأنه أفضل ففعل، وإن ثبت أن ذلك كان في عمرة القضية وثبت أنه صلى الله عليه وسلم حلق فيها جاء هذا الاحتمال بعينه وحصل التوفيق بين الأخبار كلها، وهذا مما فتح الله علي به في هذا «الفتح» ولله الحمد، ثم لله الحمد أبدًا. انتهى كلام ابن حجر – رحمه الله -.
الفصل الرابع في صفته رضي الله عنه([sup][1])[/sup]
كان معاوية رضي الله عنه طويلًا، أبيض، جميلًا، إذا ضحك انقلبت شفته العليا، وكان يخضب.
روى: سعيد بن عبد العزيز، عن أبي عبد ربه: رأيت معاوية يخضب بالصفرة، كأن لحيته الذهب. وقال أسلم مولى عمر: قدم علينا معاوية وهو أبيض الناس، وأجملهم.
وروى محمد بن إسحاق «صاحب السيرة»: عن أبيه: رأيت معاوية بالأبطح أبيض الرأس واللحية، كأنه فلج.
وعن إبراهيم بن عبد الله بن قارظ قال: رأيت معاوية، وبيده قصة من شعر، فوضعها على رأسه، فما رأيتها على عروس ولا غيرها أجمل منه على معاوية رضي الله عنه([sup][2])[/sup].
الفصل الخامس
في فضله وعلمه وفقهه وصلاحه
لا شك أن معاوية رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته – كما تقدم -، ويكفيه هذا شرفًا وفضلًا، مع الصحبة، وهو خال المؤمنين، وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أخته أم حبيبة بنت أبي سفيان رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ونال شرف خدمته في مواقف كثيرة، منها أنه حلق له شعره في إحدى عمره أو في حجته([sup][1])[/sup]، ومنها ما روى أبو أمية عمرو بن يحيى بن سعيد، قال: سمعت جدي يحدث أن معاوية أخذ الإداوة بعد أبي هريرة يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، واشتكى أبو هريرة، فبينا هو يوضئ رسول الله صلى الله عليه وسلم، رفع رأسه إليه مرة أو مرتين فقال: «يا معاوية، إن وليت أمرًا فاتق الله عز وجل واعدل»، قال: «فما زلت أظن أني مبتلى بعمل لقول النبي صلى الله عليه وسلم، حتى ابتليت»([sup][2])[/sup].
وعن عبد الله بن بريدة قال: قال معاوية: أما إنكم لا تجدون رجلًا منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلتي، أقل حديثًا عنه، إني كنت ختنه([sup][3])[/sup] وكنت في كتابه، وكنت أرحل له راحلته([sup][4])[/sup].وعن المسور بن مخرمة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأنساب تنقطع يوم القيامة، غير نسبي وسببي وصهري»([sup][5])[/sup].وقال أبو بكر الخلال في كتاب (السنة)([sup][6])[/sup]: أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد الميموني قال: قلت لأحمد بن حنبل: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل صهر ونسب ينقطع إلا صهري ونسبي»؟ قال: بلى! قلت: وهذه لمعاوية؟ قال: نعم، له صهر ونسب، قال: وسمعت ابن حنبل يقول: ما لهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية!
وعن عمر بن بزيع قال سمعت علي بن عبد الله بن عباس وأنا أريد أن أسب معاوية، فقال لي: مهلًا! لا تسبه؛ فإنه صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم([sup][7])[/sup].
وعن أبي طالب صاحب الإمام أحمد أنه سأل أبا عبد الله أحمد بن حنبل: أقول معاوية خال المؤمنين وابن عمر خال المؤمنين؟ قال نعم معاوية أخو أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورحمهما، وابن عمر أخو حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورحمهما، قلت أقول معاوية خال المؤمنين؟ قال: نعم([sup][8])[/sup].
وقال أبو بكر الخلال أخبرنا أبو بكر المروذي، قال: سمعت هارون ابن عبد الله يقول لأبي عبد الله: جاءني كتاب من الرقة أن قومًا قالوا: لا نقول معاوية خال المؤمنين! فغضب، وقال: ما اعتراضهم في هذا الموضع، يجفون حتى يتوبوا([sup][9])[/sup]!
وقال الخلال: وأخبرني محمد بن أبي هارون ومحمد بن أبي جعفر أن أبا الحارث حدثهم، قال: وجهنا رقعة إلى أبي عبد الله: ما تقول – رحمك الله – فيمن قال: لا أقول إن معاوية كاتب الوحي! ولا أقول إنه خال المؤمنين! فإنه أخذها بالسيف غصبًا! قال أبو عبد الله: هذا قول سوء رديء، يجانبون هؤلاء القوم، ولا يجالسون، ويبين أمرهم للناس.
قال الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل التيمي الأصبهاني في كتاب «الحجة في بيان المحجة وشرح عقيدة أهل السنة»([sup][10])[/sup] أخبرنا أحمد بن عبد الغفار بن أشتة، أخبرنا أبو منصور معمر بن أحمد([sup][11])[/sup] قال: لما رأيت غربة السنة، وكثرة الحوادث واتباع الأهواء أحببت أن أوصي أصحابي وسائر المسلمين بوصية من السنة وموعظة من الحكمة، وأجمع ما كان عليه أهل الحديث والأثر، وأهل المعرفة والتصوف من السلف المتقدمين، والبقية من المتأخرين، فأقول وبالله التوفيق: ... ثم ذكر فصولًا من السنة، وقال: وإن أفضل الناس وخيرهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، ثم عمر الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم علي رضوان الله عليهم أجمعين ، فإنهم الخلفاء الراشدون المهديون، بُويع كل واحد منهم يوم بويع، وليس أحد أحق بالخلافة منه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد للعشرة بالجنة، وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة بن الزبير وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح y، وأن عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله مبرأة من كل دنس، طاهرة من كان ريبة، فرضي الله عنها، وعن جميع أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين الطاهرات وأن معاوية بن أبي سفيان كاتب وحي الله وأمينة، ورديف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخال المؤمنين ...إلخ.
وقال الشيخ موفق الدين أبو محمد ابن قدامة المقدسي رحمه الله: ومعاوية خال المؤمنين، وكاتب وحي الله، وأحد خلفاء المسلمين رضي الله تعالى عنهم([sup][12])[/sup].
قال الحافظ ابن بطة([sup][13])[/sup] في سياق عقيدة أهل السنة والجماعة بعد كلام سبق: وتحب جميع أصحاب رسول الله على مراتبهم ومنازلهم أولًا فأولا، وتترحم على أبي عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان أخي أم حبيبة زوجة رسول الله، خال المؤمنين أجمعين، كاتب الوحي، وتذكر فضائله...إلخ.
وذكر البيهقي في (دلائل النبوة) خبرًا غريبًا، وذكره عنه ابن كثير في (البداية والنهاية) عن الكلبي، وهو شديد الضعف، عن أبي صالح، عن ابن عباس، في هذه الآية: ]عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً[ قال: كانت المودة التي جعل الله بينهم تزويج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين، قال البيهقي: كذا في رواية الكلبي([sup][14])[/sup].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والذين أطلقوا على الواحد من أصهار النبي صلى الله عليه وسلم أنه خال المؤمنين، قصدوا بذلك الإطلاق: أن لأحدهم مصاهرة مع النبي صلى الله عليه وسلم، واشتهر ذكرهم لذلك عن معاوية رضي الله عنه، كما اشتهر أنه كاتب الوحي، وقد كتب الوحي غيره، وأنه رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أردف غيره، فهم لا يذكرون ما يذكرون من ذلك لاختصاصه به، بل يذكرون ما له من الاتصال بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما يذكرون في فضائل غيره ما ليس من خصائصه، كقوله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: «لأعطين الراية رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله»([sup][15])[/sup]، وقوله: «إنه لعهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق»([sup][16])[/sup]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تكون بمنى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعده»([sup][17])[/sup]، فهذه الأمور ليست من خصائص علي لكنها من فضائله ومناقبه التي تعرف بها فضيلته، واشتهر رواية أهل السنة لها؛ ليدفعوا بها قدح من قدح في علي رضي الله عنه وجعلوه كافرًا أو ظالمًا من الخوارج وغيرهم، ومعاوية رضي الله عنه أيضًا لما كان له نصيب من الصحبة والاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم، وصار أقوام يجعلونه كافرًا أو فاسقًا، ويستحلون لعنته، ونحو ذلك احتاج أهل العلم أن يذكروا ما له من الاتصال برسول الله صلى الله عليه وسلم، ليرعى بذلك حق المتصلين برسول الله صلى الله عليه وسلم بحسب درجاتهم، وهذا القدر لو اجتهد فيه الرجل وأخطأ لكان خيرًا ممن اجتهد في بغضهم وأخطأ، فإن باب الإحسان إلى الناس والعفو عنهم مقدم على باب الإساءة والانتقام، كما في الحديث: «ادرؤوا الحدود بالشبهات»([sup][18])[/sup]، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» اهـ.([sup][19])[/sup].
الفصل السادس في علمه وفقهه
كان معاوية من فقهاء الصحابة وعلمائهم المعدودين، قال الحافظ ابن عساكر: «كان من الكتبة، الحسبة، الفصحة، أسلم قبيل الفتح وقيل عام القضية، وهو ابن ثمان عشرة، عده ابن عباس من الفقهاء، وقال: كان فقيهًا» اهـ([sup][1])[/sup].
وقد حدث عن: النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب له الوحي والكتب، وحدث أيضًا عن: أخته أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها، وعن: أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما.
روي له عن النبي صلى الله عليه وسلم مائة حديث وثلاثة وستون حديثًا([sup][2])[/sup]، روى عنه من الصحابة جرير بن عبد الله، وأبو سعيد الخدري، والنعمان بن بشير، وعبد الله بن الزبير، وابن عباس، ومن التابعين سعيد بن المسيب، وأبو صالح السمان، وأبو إدريس الخولاني، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وعروة بن الزبير، وسعيد المقبري، وخالد بن معدان، وهمام بن منبه، وعبد الله بن عامر المقرئ، والقاسم أبو عبد الرحمن، وعمير بن هانئ، وعبادة بن نسي، وسالم بن عبد الله، ومحمد بن سيرين، ووالد عمرو بن شعيب، وخلق سواهم.
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: قال: «خرج معاوية على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قال: آلله ما أجلسنا غيره، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثًا مني، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟ قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومن به علينا، قال: آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟ قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: أما إني لم أستحلفكم تهمةً لكم، ولكنه أتاني جبريل، فأخبرني أن الله عليه السلاميباهي بكم الملائكة»([sup][3])[/sup].
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ما رأيت أحدًا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من أميركم هذا – يعني معاوية -([sup][4])[/sup].
وعن عمرو بن واقد: حدثنا يونس بن ميسرة: سمعت معاوية يقول على منبر دمشق: تصدقوا، ولا يقل أحدكم، إني مقل، فإن صدقة المقل أفضل من صدقة الغني([sup][5])[/sup].
وعن ابن أبي مليكة قال قيل لابن عباس: هل لك في معاوية ما أوتر إلا بواحدة! قال: أصاب، إنه فقيه([sup][6])[/sup].
وعن كريب مولى ابن عباس: أنه رأى معاوية صلى العشاء، ثم أوتر بركعة واحدة لم يزد، فأُخبر ابن عباس، فقال: أصاب، أي بني! ليس أحد منا أعلم من معاوية، هي واحدة أو خمس أو سبع، أو أكثر([sup][7])[/sup].
الفصل السابع كتابته للوحي ومنزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
من فضل الله عليه أن شرفه بكتابة الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان كاتبًا أمينًا، فعن عبد الله بن عمرو، قال: كان معاوية يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية([sup][1])[/sup] والذهبي([sup][2])[/sup] وابن القيم([sup][3])[/sup] وابن كثير([sup][4])[/sup] وابن حجر وجماعات من العلماء والمؤرخين في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بالغ مبلغ التواتر المعنوي، قال الذهبي وابن حجر: وفي مسند أحمد – وأصله في مسلم – عن ابن عباس قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «ادع لي معاوية» وكان كاتبه([sup][5])[/sup].