قال أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه "حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة السهمي " فماذا فعل سيدنا عبد الله بن حذافة السهمي حتى يستحق ذلك التكريم؟
عبد الله بن حذافة السهمي
بطل قصتنا هذه رجل من الصحابة يدعي عبد الله بن حذافة السهمي .. لقد كان في وسع التاريخ أن يمر بهذا الرجل كما مر بملايين العرب من قبله دون أن يأبه لهم أو يخطروا له علي بال ...
لكن الإسلام العظيم أتاح لعبد الله بن حذافة السهمي أن يلقي سيدي الدنيا في زمانه .. كسري ملك الفرس .. وقيصر ملك الروم .. وأن تكون مع كل منهما قصة ما تزال تعيها ذاكرة الدهر ويرويها لسان التاريخ.
أما قصته مع كسري ملك الفرس: فكانت في السنة السادسة للهجرة حين عزم النبي صلي الله عليه وسلم أن يبعث طائفة من أصحابه بكتب إلي ملوك الأعاجم يدعوهم فيها إلي الإسلام .. وقد كان الرسول صلي الله عليه وسلم يقدر خطورة هذه المهمة .. فهؤلاء الرسل سيذهبون إلي بلاد نائية لا عهد لهم بها من قبل .. وهم يجهلون لغات هذه البلاد ولا يعرفون شيئاً عن أمزجة ملوكها .. ثم أنهم سيدعون هؤلاء الملوك إلي ترك أديانهم .. ومفارقة عزهم وسلطانهم .. والدخول في دين قوم كانوا إلي الأمس القريب من بعض أتباعهم .. إنها رحلة خطرة .. الذاهب فيها مفقود والعائد منها مولود .. لذا جمع الرسول صلي الله عليه وسلم وقام فيهم خطيباً فحمد الله وأثنى عليه وتشهد ثم قال: اما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلي ملوك الأعاجم فلا تختلفوا علي كما إختلفت بنو اسرائيل علي عيسي بن مريم .. فقال أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم: نحن يارسول الله نؤدى عنك ما تريد فابعثنا حيث شئت.
انتدب عليه الصلاة والسلام ستة من أصحابه ليحملوا كتبه إلي ملوك العرب والعجم .. وكان أحد هؤلاء الستة عبد الله بن حذافة السهمي .. فقد أختير لحمل رسالة النبي صلوات الله عليه إلى كسري ملك الفرس.
جهز عبد الله بن حذافة راحلته .. وودع صاحبته وولده .. ومضي إلي غايته ترفعه النجاد وتحطه الوهاد .. وحيداً فريداً ليس معه إلا الله .. حتي بلغ ديار فارس .. فاستأذن بالدخول علي ملكها وأخطر الحاشية بالرسالة التي يحملها له .. عند ذلك أمر كسري بإيوانه فزين .. ودعا عظماء فارس لحضور مجلسه فحضروا .. ثم أذن لعبد الله بن حذافة بالدخول عليه.
دخل عبد الله بن حذافه علي سيد فارس مشتملاً شملته الرقيقة .. مرتدياً عباءته الصفيقة .. عليه بساطة الأعراب .. لكنه كان عالي الهامة مشدود القامة تتأجج بين جوانحه عزة الإسلام وتتوقد في فؤاده كبرياء الإيمان .. فما أن رآه كسري مقبلاً حتي أومأ إلي أحد رجاله بأن يأخذ الكتاب من يده فقال: لا .. إنما أمرني رسول الله صلي الله عليه وسلم أن أدفعه لك يداً بيد وأنا لا أخالف أمراً لرسول الله .. فقال كسري لرجاله: اتركوه يدنو مني .. فدنا من كسري حتي ناوله الكتاب بيده.
ثم دعا كسري كاتباً عربياً من أهل الحيرة .. وأمره أن يفض الكتاب بين يديه .. وأن يقرأه عليه فإذا فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم .. من محمد رسول الله إلي كسري عظيم فارس .. سلام علي من إتبع الهدى ...). فما أن سمع كسري من الرسالة هذا المقدار حتي إشتعلت نار الغضب في صدره .. فاحمر وجهه وانتفخت أوداجه .. لأن الرسول صلي الله عليه وسلم إبتدأ بنفسه .. فجذب الرسالة من يد كاتبه وجعل يمزقها دون أن يعلم ما فيها وهو يصيح: أيكتب لي بهذا وهو عبدي ؟!! ثم أمر بعبد الله بن حذافة أن يخرج من مجلسه .. فأخرج.
خرج عبد الله بن حذافة من مجلس كسرى .. وهو لايدري ما يفعل الله له .. أيقتل أم يترك حراً طليقاً ؟ لكنه ما لبث أن قال: والله ما أبالي علي أي حال أكون بعد أن أديت كتاب رسول الله صلي الله عليه وسلم .. وركب راحلته وانطلق.
ولما سكت عن كسري الغضب .. أمر بأن يدخل عليه عبد الله فلم يوجد .. فالتمسوه فلم يقتفوا له علي أثر .. فطلبوه في الطريق إلي جزيرة العرب فوجدوه قد سبق .. فلما قدم عبد الله علي النبي صلي الله عليه وسلم أخبره بما كان من أمر كسري وتمزيقه الكتاب .. فما زاد عليه الصلاة والسلام على أن قال مزق الله ملكه ( أن يمزقوا كل ممزق ).
أما كسري فقد كتب إلي (باذان) نائبه علي اليمن: أن ابعث إلي هذا الرجل الذي ظهر بالحجاز رجلين جلدين من عندك .. ومرهما أن يأتياني به .. فبعث باذان رجلين من خيرة رجاله إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم .. وحملهما رسالة له .. يأمره فيها أن ينصرف معهما إلي لقاء كسري دون إبطاء .. وطلب إلي الرجلين أن يقفا علي خبر النبى عليه الصلاة والسلام .. وأن يستقصيا أمره .. وأن يأتياه بما يقفان عليه من معلومات.
خرج الرجلان يغذان السير حتي بلغا الطائف .. فوجدا رجالاً تجاراً من قريش .. فسألاهم عن محمد عليه الصلاة والسلام فقالوا: هو في يثرب .. ثم مضي التجار إلي مكة فرحين مستبشرين ..وجعلوا يهنئون قريشاً ويقولون: قروا عيناً .. فإن كسري تصدي لمحمد وكفاكم شره.
أما الرجلان فيمما وجهيهما شطر المدينة حتي إذا بلغاها لقيا النبي عليه الصلاة والسلام ودفعا إليه رسالة باذان وقالا له: إن ملك الملوك كسري كتب إلي ملكنا باذان أن يبعث إليك من يأتيه بك .. وقد أتيناك لتنطلق معنا إليه .. فإن أجبتنا كلمنا كسري بما ينفعك ويكف أذاه عنك .. وإن أبيت فهو من قد علمت سطوته وبطشه وقدرته علي إهلاكك وإهلاك قومك .. فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام وقال لهما ارجعا إلي رحالكما اليوم وأتيا غداً.
فلما غدوا على النبى عليه الصلاة والسلام في اليوم التالي قالا له: هل أعددت نفسك للمضي معنا إلي لقاء كسري ؟ فقال لهم النبي: لن تلقيا كسري بعد اليوم .. فقد قتله الله حيث سلط عليه ابنه شيرويه في ليلة كذا .. من يوم كذا .. فحدقا في وجه النبي وبدت الدهشة علي وجهيهما وقالا له: أتدري ما تقول ؟! أنكتب بذلك لباذان ؟! قال: نعم وقولا له أن ديني سيبلغ ما وصل إليه ملك كسري .. وإنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك علي قومك.
خرج الرجلان من عند الرسول صلي الله عليه وسلم وقدما علي باذان وأخبراه الخبر .. فقال: لئن كان ما قاله محمد فهو نبي .. وإن لم يكن كذلك سنري فيه رأياً.
فلم يلبث أن قدم علي باذان كتاب شيرويه وفيه يقول: أما بعد فقد قتلت كسري .. ولم أقتله إلا إنتقاماً لقومنا .. فقد استحل قتل أشرافهم وسبي نسائهم وإنتهاب أموالهم .. فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن عندك .. فما أن قرأ باذان كتاب شيرويه حتي طرحه جانباً وأعلن دخوله في الإسلام .. وأسلم من كان معه من الفرس في بلاد اليمن.
هذه قصة لقاء عبد الله بن حذافة لكسري ملك الفرس ..
أما قصة لقاء عبد الله بن حذافة السهمي لقيصر عظيم الروم
لقد كان لقاؤه لقيصر في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه .. وكانت له معه قصة من روائع القصص.
ففي السنة التاسعة عشرة للهجرة بعث عمر بن الخطاب جيشاً لحرب الروم فيه عبد الله بن حذافة السهمي .. وكان قيصر عظيم الروم قد تناهت إليه أخبار جند المسلمين وما يتحلون به من صدق الإيمان ورسوخ العقيدة واسترخاص النفس في سبيل الله ورسوله .. فأمر رجاله – إذا ظفروا بأسير من أسري المسلمين – أن يبقوا عليه وأن يأتوه به حياً .. وشاء الله أن يقع عبد الله بن حذافة السهمي أسيراً في أيدي الروم .. فحملوه إلي مليكهم وقالوا: إن هذا من أصحاب محمد السابقين إلي دينه قد وقع أسيراً في أيدينا فأتيناك به.
نظر ملك الروم إلي عبد الله بن حذافة طويلاً ثم بادره قائلاً: إني أعرض عليك أمراً قال: ما هو ؟ فقال: أعرض عليك أن تتنصر .. فإن فعلت خليت سبيلك وأكرمت مثواك فقال الأسير في أنفة وحزم: هيهات .. إن الموت لأحب إلي ألف مرة مما تدعوني إليه فقال قيصر: إني لأراك رجلاً شهماً .. فإن أجبتني إلي ما أعرضه عليك أشركتك في أمري وقاسمتك سلطاني فتبسم الأسير المكبل بقيوده وقال: والله لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما ملكته العرب علي أن أرجع عن دين محمد طرفة عين ما فعلت قال: إذن أقتلك قال: أنت وما تريد
ثم أمر به فصلب وقال لقناصته -بالرومية- : أرموه قريباً من يديه وهو يعرض عليه التنصر فأبي فقال: أرموه قريباً من رجليه وهو يعرض عليه مفارقة دينه فأبي .. عند ذلك أمرهم أن يكفوا عنه .. وطلب إليهم أن ينزلوه عن خشبة الصلب .. ثم دعا بقدر عظيمة وصب فيها الزيت ورفعت علي النار حتى غلت .. ثم دعا بأسيرين من أساري المسلمين .. فأمر بأحدهما أن يلقي فيها فألقي .. فإذا لحمه يتفتت وإذا عظامه تبدو عارية ... ثم التفت إلي عبد الله بن حذافة ودعاه إلي النصرانية .. فكان أشد إباء لها من قبل.
فلما يئس منه .. أمر به أن يلقي في القدر التي ألقي فيها صاحباه .. فلما ذهب به دمعت عيناه فقال رجال قيصر لملكهم لقد بكي ... فظن أنه قد جزع فقال ردوه إلي .. فلما مثل بين يديه عرض عليه النصرانية فأباها فقال: ويحك فما الذي أبكاك إذن ؟! قال: أبكاني أني قلت في نفسي تلقي الآن في هذه القدر فتذهب نفسك وقد كنت أشتهي أن يكون لي بعدد ما في جسدي من شعر أنفس فتلقي كلها في هذا القدر في سبيل الله ... فقال الطاغية: هل لك أن تقبل رأسي وأخلي عنك ؟ فقال له عبد الله: وعن جميع أساري المسلمين أيضاً ؟ قال: وعن جميع أساري المسلمين أيضاً ... قال عبد الله: فقلت في نفسي عدو من أعداء الله أقبل رأسه فيخلي عني وعن أساري المسلمين جميعاً لا ضير في ذلك علي .. ثم دنا منه وقبل رأسه .. فأمر ملك الروم أن يجمعوا له أساري المسلمين وأن يدفعوهم إليه .. فدفعوا له.
قدم عبد الله بن حذافة علي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأخبره خبره .. فسر به الفاروق أعظم السرور .. ولما نظر إلي الأسري قال: حق علي كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة .. وأنا أبدأ بذلك .. ثم قام وقبل رأسه.